أرشيف اليمن السعيد
عنزة ولو طارت !

 

د/سيف مهيوب العسلي 

 

العنوان مقتبس من مثل مشهور في اليمن وربما في بعض الدول العربية، مفاده أن شخصاً ادعى أن عنزة تعود لشخص آخر قد أكلت زرعه، لكن صاحب العنزة أنكر ذلك وادعى أن من أكل الزرع هو العصفور، بدليل رؤيته يطير من وسط الزرع، فرد عليه صاحب الزرع أن الذي أكل زرعه هو العنزة حتى لو ظهرت بمظهر العصفور، فلا يهمني زرعي وإنما الذي يهمني هو أن تكون عنزتك هي التي أكلته. ونظراً لغرابة تصرف الشخصين فقد اصبح هذا المثل يرمز إلى أي حد يصادر التعصب العقل البشري، فالفارق بين العنزة والعصفور كبير، وبالتالي يستحيل التباسه على أي عاقل تحت أي ظرف من الظروف، إنه التعصب الأعمى الذي لم يمكنهما من رؤية الفرق الكبير بين شكل العنزة والعصفور وبين ما يمكن أن تأكله العنزة وما يمكن أن يأكله العصفور.. الشخص المتعصب يصر على رأيه حتى لو كان يتناقض مع الواقع والبديهيات والحقائق والسنن الكونية. إنه لشيء غريب أن يتخلى الإنسان عن عقله الذي هو أفضل ما منحه إياه الله عز وجل لأتفه الأسباب، فما الذي ستأكله العنزة من الزرع ليجعل الشخصين يصران على رأيهما، رغم أنه يمكن التأكد من الرأي الصحيح ببساطة؟ وفي حال كون أحد الرأيين غير صحيح، فإن ما سيترتب على ذلك من تعويض تافه لا يبرر تمسكهما برأيهما على هذا النحو. الخوف والقلق همها اللذان يولدان التعصب و يحافظان عليه، إنه يرد الإنسان إلى أسفل السافلين بعد أن خلقه الله في أحسن تقويم، فعندما يصاب الإنسان أو الجماعة أو المجتمع بالتعصب تصبح تصرفاته أسوأ من تصرفات الأنعام. الفرد أو الحزب أو المجتمع المصاب بالتعصب لا يستطيع أن يتعامل مع نفسه و مع الآخرين بالصدق، فيسعى إلى خداع نفسه بنفسه، وفي هذه الحالة فإنه لا يأبه في أن يخدع الآخرين أو أن يخدعوه، ففي ظل انتشار الخداع على هذا النحو، فإنه لا يمكن أن يكون هناك أي حوار أو تنافس أو تعاون، وفي هذه الحالة يعيش المجتمع تحت شريعة الغاب، وفي ظل وضع كهذا تنتشر ممارسات مثل الاستفزاز والسباب والاهانة والاتهام والقتل والتصارع. وفي ظل ثقافة كهذه تختفي الثقة، ويترتب على ذلك أن تكون مطالب مختلف الاطراف غير معقولة وغير قابلة للتنفيذ، ومن ثم يتشبث كل طرف برؤيته ومطالبه، الأمر الذي يؤدي إلى استحالة الاتفاق على أي شيء، وحتى في حال التوافق الظاهري أو الشكلي، فإن ما يتم الاتفاق عليه يظل حبراً على ورقة ولا يتحقق على أرض الواقع. ما أشبه تصرفات النخب السياسية في اليمن بتصرفات هذين الشخصين وبالتالي فإن هذا المثل ينطبق عليها تمام الانطباق، ألا ترى أن مطالبها متناقضة وغير واقعية، فحل القضية الجنوبية كما يفهمها الحراك يعني القضاء على الوحدة، وتلبية مطالب الحوثيين يتناقض مع الجمهورية، ومطالب المؤتمر واللقاء المشترك بالتقاسم تقضي على أبسط مقومات الديمقراطية، ومحاولات المحافظة على الوضع الراهن يمنع التغيير، والسعي إلى اجتثاث الماضي كلية يفضي إلى الفوضى. إن مطالب كهذه تعكس خروج هذه النخب عن نطاق التغطية، فإصرارها على طرح مثل هذه المطالب والتشبث بها يدل بما لا يدع أي مجال للشك على أنها لا تدرك الواقع، إنها تعاني من تشوه في المعلومات وضبابية في الرؤى، ونتيجة لذلك فإنها قد أصيبت بانحراف في الدوافع وعقم في الاستراتيجيات، وإذا كان الأمر على هذا النحو، فإنها لن تكون قادرة على اتخاذ القرارات الكبيرة والمهمة. إن مثل هؤلاء لا يمكن أن يتحاوروا لأن كل طرف منهم سيتمسك بالمثل السالف أي “عنزة و لو طارت” وبالتالي سينتهي الحوار إذا قدر له البدء بالفشل الذريع، لا يجرب المجرب إلا من عقله مخرب. فقط سيكون للحوار معنى و فعالية إذا تصدرته وقادته قوى الشباب، إنها لا تعاني من الخوف و القلق، إنها لم تصب بعد بالتعصب الأعمى، إنها تستطيع أن تميز بين المطالب المعقولة والممكنة. فبدون ذلك سيظل مثل “عنزة و لو طارت” يعبر عن حالة اليمن لفترة طويلة من الزمن!. فهل سيتاح للشباب فعل ذلك؟ وهل هم قادرون على فرض ذلك؟!. 

مقالات أخرى